السياسة تتلبس الدين- صراع أنماط التدين وإعادة تعريف العدو.

أجل، لقد علمتني تجربة تجاوزت الثلاثة عقود في تتبع الجدل الدائر حول القضايا الدينية والثقافية – سواء داخل حدود الوطن العربي أو على الصعيد العالمي – أن أنقب بعمق بحثًا عن الخلفيات السياسية الخفية التي تغذي هذا الجدل. وإلى جانب ذلك، ظهر تطور لافت آخر خلال العقد المنصرم، يتمثل في اندلاع صراع حاد ومستعر حول مفهوم "جوهر الإسلام"، وهي في الواقع معركة طاحنة تدور رحاها حول أساليب التدين التي يجب أن تسود في أرجاء الدول العربية، بل ويتم تصديرها إلى العالم أجمع.
إن الترويج لصور نمطية معينة من التدين في المنطقة، من خلال إضفاء الطابع المؤسسي والتنظيمي على الحقل الديني، يعني في نهاية المطاف الوصول إلى تصور للإسلام يتماهى بشكل كامل مع الكيانات ذات النفوذ القوي، ويعزز بقاءها واستمرارها، ويكرس أنماط تحالفاتها وشبكات امتيازاتها المالية والدولية. إنه ليس بالتأكيد تصورًا يهدف إلى إعادة توزيع النفوذ والثروة بشكل عادل في المجتمع – بحيث لا يصبح حكرًا على شبكات مصالح ضيقة – كما نصت على ذلك سورة الحشر بكل وضوح. والأدهى من ذلك، أن هذا التوجه يسعى إلى إعادة تعريف العدو، ليصبح المقاومة الوطنية – بأشكالها كافة – بدلاً من إسرائيل.
إذًا، فإن رؤيتي المتواضعة تتمحور حول أن الصراع المحتدم بشأن أنماط التدين المتنوعة، والجدالات الدينية والثقافية الشرسة، هو في حقيقته صراع سياسي محض، ولكنه يتستر بوشاح ديني وثقافي زائف. وبصورة أكثر وضوحًا وتجليًا: لقد اخترق السياسي المجالين الديني والثقافي، ليقوم بإعادة إنتاجهما على مقاسه الخاص، كتعبير صارخ عن مصالح الجهات التي تقف وراءه وتدعمه. وما نشهده اليوم ما هو إلا سلسلة من الأزمات والصراعات السياسية ذات الأبعاد الدينية والثقافية العميقة، والتي تختبر من خلالها الأطراف المتنازعة موازين القوى والمصالح فيما بينها، في ظل تداخل شديد وامتزاج معقد بين المصالح المادية والمشاعر الدينية والثقافية الأصيلة.
مع تغلب السياسي وهيمنته الطاغية، يتم استدعاء الجميع إلى ساحة معركته، الأمر الذي يشعل فتيل التوترات ويزيد من حدة الصراعات. لذا، فمن الضروري للغاية التمييز بين المستويات المتعددة والمتداخلة – خاصة بين السياسي والديني/الثقافي – مع إدراك الخلفية السياسية التي تتحرك عليها وتتأثر بها المجالات الدينية والثقافية.
ولكن ما هي الخلفية السياسية التي تدور في فلكها المناقشات المحتدمة حول مؤسسة "تكوين لتجديد الفكر العربي"، التي أعلن عن تأسيسها مؤخرًا نخبة من المثقفين المصريين البارزين؟
تتمحور الخلفية السياسية في هذا الجدال الدائر حول ثلاثة عناصر أساسية:
أولًا: تأجج أوار الجدل الديني وتأميم المجال السياسي:
في الوقت الذي يتم فيه التعامل بحزم شديد مع النقاش السياسي وإعادة هيكلة الاقتصاد من خلال تطبيق سياسات نيوليبرالية متوحشة، نلاحظ تصاعد حدة الجدل الديني والثقافي في موجات متتالية لا تنتهي. فما تكاد موجة تهدأ حتى تندلع أخرى أكثر اشتعالاً.
صحيح أن هذا الاشتعال المحموم للجدل الديني يعكس العجز الرسمي العربي عن السيطرة الكاملة على المجال الديني، على الرغم من النجاح الكبير الذي تحقق في إحكام القبضة على المجالين السياسي والاقتصادي؛ إلا أن هذا الجدل يُستخدم أيضًا لخدمة هدف أبعد، وهو المزيد من تجفيف/إفراغ المجال السياسي من محتواه، وذلك من خلال صرف انتباه النقاش العام عن انكشاف العجز الرسمي المخزي أمام الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني.
إن مصطلح "الزيطة" – وهي كلمة عربية فصيحة تعني الجلبة والضوضاء الصاخبة – هو من التعبيرات العبقرية التي يستخدمها المصريون للتعبير عن استياءهم من شخص أو مجموعة تستغل الأحداث الجارية لتحقيق مصالحها الذاتية، من خلال المشاركة في "الزيطة" ورفع أصواتهم بالصراخ والعويل، دون أن يكون لذلك أي تأثير حقيقي على القضية التي يتبنونها أو يزعمون الدفاع عنها.
إن طغيان الديني على السياسي، والسياسي على الديني، يؤدي إلى إرباك الجميع وزعزعة استقرارهم، والأهم من ذلك، التغطية والتعتيم على أولويات الناس وقضاياهم الحقيقية. فالسقف المرتفع للجدل الديني لا يوازيه نفس السقف في المجال السياسي، والجرأة على انتقاد الدين لا تقابلها جرأة مماثلة على انتقاد المواقف الضعيفة والمتخاذلة تجاه التوحش الإسرائيلي.
ثانيًا: الجدل الديني بين قوى المحافظة والتجديد:
في خضم الجدل المحتدم حول المسائل الدينية، يبرز نمطان متباينان من الخطابات الدينية:
النمط الأول: يدفع بالتدين إلى مساحات الشأن الفردي الخاص، مما يتطلب مرونة كبيرة في تفسير النص المنزل، ويعتمد في أحد جوانبه على الانتقاء المتعسف من التراث والتعددية الفقهية – التي تعد إحدى السمات المميزة للخبرة التاريخية الإسلامية – ليس للدفع بقيمة التعددية قدمًا وتعزيزها، ولكن لملء مساحات الفراغ الديني التي يُعاد تشكيلها وتصميمها الآن.
لقد أظهر استطلاع الباروميتر العربي لعام 2021/2022 عودة ملحوظة إلى التدين بين المواطنين العرب. فقد شهد المغرب انخفاضًا بنسبة 7% في عدد من وصفوا أنفسهم بأنهم "غير متدينين" بين جميع الفئات العمرية، تليه مصر بانخفاض بنحو 6%، ثم تونس وفلسطين والأردن والسودان بانخفاض بنسبة 4%.
هذه العودة المتزايدة إلى التدين يقابلها أزمة هوية حادة وتشتت وتشرذم في الخطابات الدينية، نتيجة لعوامل متعددة ومتشابكة. وأعتقد – مع التسليم بأن بعض الظن إثم – أن مؤسسة "تكوين"، بشخصياتها البارزة والجهات التي تقف وراءها، تقع في صميم هذا التوجه. أما النمط الثاني: فهو يقف على النقيض من هذا النمط الذي يستخدم الفقه والانتقاء من التراث لتحقيق المزيد من السيولة الدينية؛ حيث نجد نمطًا آخر يتمحور حول تغليب القراءة التراثية للنص المنزل، وهو نمط تحركه بالأساس الرغبة في الحفاظ على التعاليم الإسلامية – كما يفهمها أصحاب هذا النمط.
ولكن لماذا يتشابه هذان النمطان إلى حد كبير من حيث طبيعة الموقف من مسائل التجديد؟ هذا ما سنناقشه بالتفصيل في النقطة التالية.
إن خطابات "الزيطة التنويرية" تستثير في المقابل مساحات واسعة من المحافظة الدينية والاجتماعية، وهو ما تنبه إليه العديد من رموز التجديد الديني، الذين حرصوا على الجمع بين التجديد في بعض المسائل والقضايا وبين المحافظة على المنهج التراثي في النظر والاستدلال. وهي مدرسة فكرية بدأت تتبلور في النصف الثاني من القرن العشرين، ولكنها ترسخت وتعمقت في الربع الأخير منه.
ثالثًا: مؤسسة "تكوين" والتطبيع.. تسييل الديني لإعادة تعريف العدو:
أرى أن هذه العلاقة تتحقق من خلال زاويتين مهمتين، ورد ذكرهما في تقرير صدر عام 2017 عن "معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى" – ذي التوجه الداعم لإسرائيل والمحافظين الجدد – تحت عنوان: "الاسترداد: سياسة ثقافية للشراكة العربية الإسرائيلية":
الملمح الأول: "يدرك الأشخاص الذين يدرسون المنطقة عن كثب أن العمل الثقافي يمثل وظيفة أساسية للدول العربية. فبالإضافة إلى الدور الذي تقوم به وزارات الإعلام والتعليم والشؤون الإسلامية العربية في السعي الدؤوب إلى مواءمة الثقافة مع أجندة الدولة، فإن الجيوش العربية والكوادر الأمنية وأقسام المخابرات تمتلك آلياتها القوية الخاصة بالغرس [الثقافي] – في السراء والضراء – فهل يمكن أن تتحرك هذه المبادرة بعيدًا عن هذا التوجيه وفي هذا التوقيت الحساس؟
ويضيف التقرير: "أنه على الرغم من اتساع المجال المعلوماتي العربي، إلا أنه يظل في الغالب سلطويًا في هيكله وتسيطر عليه في المقام الأول الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة" – وأضيف: وإسرائيل أيضًا في الوقت الراهن.
الملمح الثاني: "ومن بين كبرى المؤسسات التعليمية والدينية في المنطقة، بدأ عدد قليل منها في تقديم أفكار تصحيحية للتحريض ضد اليهود… فعلى سبيل المثال؛ حظيت البدايات المتواضعة لمحاولات تطهير محتوى الكتب المدرسية العربية من معاداة السامية باعتراف وتقدير من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل – وفقًا لما جاء في التقرير."
إن بعض الأنظمة العربية تقدم مبادراتها المتعلقة بدور الدين في السياسة والحياة العامة على أنها دعوة صريحة للحداثة والتسامح بين الأديان ومحاربة التطرف، ولكنها قد تكون في حقيقتها محاولة خبيثة لبسط النفوذ وإحكام السيطرة على مجمل المجال الديني، وجميع المؤسسات الدينية، وفي نفس الوقت دمج النخب الثقافية – أو قطاعات منها – في شبكات التحالفات السياسية والمالية – على المستويين الوطني والإقليمي، ومع الرعاة الدوليين.
أختتم حديثي بالإشارة إلى أن تسييل التعاليم الدينية يمثل مهمة بالغة الصعوبة والتعقيد، ولكنه حال تحققه يسهل إلى حد كبير إعادة تعريف العدو، وإعادة صياغة المجتمع والدولة وفقًا لما يريده النافذون وأصحاب السلطة، وهو ما يجري على قدم وساق في المنطقة من خلال مداخل وطرق متعددة. إن التسييل هو مهمة مؤقتة، الغرض منها احتلال المناطق المسيلة برؤى وتصورات النافذين بتحالفاتهم القديمة والجديدة.
